فصل: سورة يوسف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (120- 123):

{وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ} الخطاب للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أي وكلّ هذا الذي نقصّ عليك من أنباء الرسل وأقوامهم، إنما لتجد منه ما يثّبت فؤادك، ويمدّك باليقين والعزم، حيث تجد إخوانك الرسل وقد استقبلهم أقوامهم بالسّفه، ورموهم بالأذى.. فإذا أنت أوذيت من قومك فقد أوذى الرسل قبلك من أقوامهم! {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [34: الأنعام].
قوله تعالى: {وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ}.
الإشارة {هذه} إلى أنباء الرسل، أي وجاءك في هذه الأنباء {الحقّ}، أي الحق من أخبارها، فهى الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {وموعظة وذكرى للمؤمنين} أي وفيما جاءك من تلك الأنباء موعظة وذكرى للمؤمنين، الذين يصدّقونك، ويؤمنون بما نزل عليك.. فهم الذين يجدون العبرة والموعظة في هذا القصص.
أما الذين لا يؤمنون فإنهم يمرّون عليها وهم عنها معرضون.
قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}.
العطف هنا على المفهوم من قوله تعالى: {وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي إن المؤمنين سيجدون في هذه الأنباء التي جاء بها القرآن عن الرسل وأقوامهم- ما يزيدهم إيمانا إلى إيمان، فقل للذين آمنوا استقيموا على طريقكم، وأبشروا بالرحمة والرضوان من ربكم، وقل للذين لا يؤمنون اعملوا ما بدا لكم أن تعملوه وأنتم على ما أنتم عليه من كفر وضلال.
إنّا عاملون على ما نحن عليه من إيمان.. وانتظروا ثمرة ما تعملون، إنا منتظرون ثمرة ما نعمل.. وسترون ما يطلع عليكم من أعمالكم من بلاء ووبال.
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
بهذه الآية الكريمة تختم السورة، جاعلة للّه سبحانه وتعالى وحده غيب ما في السموات والأرض.. إذ قد استأثر- سبحانه- بعلم كل ما هو غائب عنّا.
ومناسبة هذا الختام للسورة، هي أنها اشتملت على كثير من أنباء الغيب التي ذكرت في قصص الأنبياء.. نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب.. عليهم السلام.. وهى أنباء إن يكن عند أهل الكتاب بعض منها، إلا أن كثيرا مما جاء به القرآن الكريم لم يكن عندهم به علم، والذي كان لهم به علم، هو خليط من الصدق والكذب، ومزيج من الواقع والخيال.
أما الذي جاء به القرآن فهو الحقّ المطلق، والصدق المصفّى.
ثم إن هذا القصص كان غيبا بالنسبة للعرب، والذي كان عندهم منه هو أوهام وظنون تلقوها من أهل الكتاب شبه أحاج بعيدة عن الحق، وفى هذا يقول اللّه تعالى: في هذه السورة: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا} (الآية 49: هود).
قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} أي إن مصائر الأمور كلها راجعة إليه سبحانه.. فهو- سبحانه- الذي يرسل الأمور، فتجرى في قدرها المقدور لها، ثم تستقرّ آخر الأمر عند الغاية التي أرادها اللّه لها.. فهو سبحانه الذي يجريها، وهو سبحانه، الذي يرسيها.. {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وإذ كان ذلك هو اللّه رب العالمين، فهو المستحق وحده لأن يعبد، وأن يعتمد عليه، وأن يعلم المرء زمامه إليه {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}.
فالعبادة هي الزاد الذي يتزود به الإنسان في طريقه إلى ربّه.. فإذا عبده العابد، وأخلص له العبادة، قويت صلته به، واطمأن قلبه إليه، فتوكل عليه، وأسلم إليه أمره.
{وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
إنه رقيب على كل شيء، عالم بكل شيء، لا تخفى على اللّه خافية في الأرض ولا في السماء.. فهو- سبحانه- يحصى علينا أعمالنا، حسنها، وسيئها، ويحاسبنا عليها، ويجزينا بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [31: النجم] وهكذا تبدأ السورة بتوجيه الخطاب إلى النبيّ الكريم، وإلفاته إلى الكتاب، الذي نزل إليه من ربّه: {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} ثم هي تنتهى بخطاب النبيّ أيضا.. ودعوته إلى عبادة ربّه، الذي أنزل عليه هذا الكتاب، والتوكل عليه.. إذ هو أعرف الناس بربّه، وأولاهم بعبادته والتوكل عليه.
وهو سبحانه رقيب على كل شيء، عالم بكل شيء- يرى المحسنين والمسيئين- ويجزى كلّا بما كسب.. {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

.سورة يوسف:

نزولها: نزلت بمكة، فهى مكية- باتفاق.
عدد آياتها: مائة وإحدى عشرة آية.. بلا خلاف عدد كلماتها: ألف وسبعمائة وست وسبعون كلمة.
عدد حروفها: سبعة آلاف ومائة وستة وستون حرفا.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 6):

{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}.
التفسير:
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ}.
بدأت هذه السورة بما بدأت به السورتان- يونس، وهود- قبلها، وكما بدأت به السورتان- إبراهيم والحجر بعدها.. لقد بدأت خمستها بهذه الأحرف الثلاثة: (ألف.. لام.. راء).. هكذا:
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} يونس.
{الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هود.
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} يوسف.
{الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} إبراهيم.
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} الحجر.
ويلاحظ:
أولا: ذكر الكتاب، أو آيات الكتاب بعد هذه الأحرف.. وهذا يشير إلى ما بين هذه الأحرف وهذا الكتاب، وآيات الكتاب، من صلات.
وقد أشرنا إلى هذا في أول سورة {هود} وقلنا: إن هذه الأحرف تشير إلى متشابه القرآن، وأن أوائل السور التي من هذا القبيل هي الآيات المتشابهات التي أشار إليها قوله تعالى: {مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} وأن غيرها من آيات القرآن محكم ومفصل.
وثانيا: أنه إذا ذكر {الكتاب} لم يشر إليه، وأنه إذا ذكرت {آيات الكتاب} أشير إليها بحرف الإشارة {تلك}:
وهذا يشير إلى أن القرآن الكريم نسج واحد، وأنّه معجزة متحدّية، سواء باعتباره كلّا لا يتجزأ، بحيث ينظر إليه من المبدأ إلى الختام، نظرة يلتقى فيها متشابهه مع محكمه، ومجمله مع مفصله، وقصصه مع أحكامه وآدابه.. أو باعتباره آيات تعرض أحداثا ومواقف، وتحدث عن أدلة وشواهد، وتكشف عن أسرار ومغيبات.
وثالثا: في ذكر الكتاب، والتزام هذا الذكر بعد تلك الأحرف، تحريض على العلم، ودعوة إلى التعلم، وأن من شأن من يتعامل مع القرآن الكريم أن يكون من أهل العلم، الذي مارس الكتابة، ودرس الكتب.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ} [43: العنكبوت].
ولا شك أن هذه اللفتة من القرآن الكريم، إلى قوم أميين، وأمة أمّية، تحمل في طياتها دعوة إلى هؤلاء الأميين أن يخرجوا من تلك الأمية، وأن ينزعوا عنهم لباس الجهل والجاهلية، وأن يأخذوا بأسباب الحضارة التي لا تقوم إلا على ركائز العلم والمعرفة! ولعلّ في عرض هذه الأحرف المتقطعة: ألف.
لام.. راء.. وغيرها من الحروف التي بدأت بها بعض السور- لعل في هذا أول درس عملىّ يقدمه القرآن، ويفتح به الطريق إلى تعليم الكتابة والقراءة، إذ كانت تلك الأحرف هي أول ما عرف العربىّ الأمىّ من أجزاء الكلمة، وعرف منها أن الكلمات التي ينطق بها ليست مركّبات مصمتة، وإنما هي قوالب، يتشكل من كل مجموعة منها بناء، هو الكلمة، كما يتشكل من الكلمات نظام، يتألف منه الكلام، الذي يتعامل به الناس في لغة التخاطب، وفى نظم القصيد، أو إنشاء الخطبة.. فكما يتعلم المبتدئ القراءة والكتابة بتعلم الحروف الهجائية التي تبنى منها الكلمات، كذلك يتعلم العرب الأميون من هذه الأحرف المقطعة كيف يشكّلون من هذه الأحرف الكلمات التي ينطقونها، ويصورون منها صورا تكتب وتقرأ.
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ}.
فى وصف الكتاب هنا بأنه مبين، توكيد لوصفه بأنه {حكيم} وبأنه {كتاب أحكمت آياته}.
إذ أن الحكمة لا تكون حكمة، والحكيم لا تتم حكمته، حتى تخرج تلك الحكمة على صورة واضحة مشرقة، يرى الناس على وجهها أضواء المعرفة، وإلا كانت حكمة مضمرة، لا ينتفع بها، أشبه باللئالئ في أصدافها، أو في أغوار الماء! فالمبين، مبين وحكيم معا.
{إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
ومن بيان القرآن، الذي يكشف عن الحكمة المشتمل عليها، أنه جاء إلى من يخاطبهم باللسان الذي يحسنون التفاهم به، وهو اللسان العربي.
ولو جاءهم بغير هذا اللسان، لما عقلوا منه شيئا، ولما انتفعوا به، ولأفلت من أيديهم كلّ ما اشتمل عليه من حكمة.
وإنه ليس بالحكيم من يخاطب النّاس بالأسلوب الذي لا يفهموته، وباللغة التي لا يحسنون الفهم عنها.. إنه حينئذ لا يجد أذنا تصغى إليه، ولا قلبا ينفتح له، ولا عقلا يتجاوب معه.. إنه يكون في واد والناس في واد، إذ يحدثهم بأصوات لا مفهوم لها عندهم.
ولهذا، فقد كان من مقتضيات البلاغة، ومن بلاغة البليغ مراعاة مقتضى الحال، فلكل مقام مقال- كما يقولون، فلا يخاطب الجاهل خطاب العالم، ولا العالم خطاب الجاهل، ولا البدوىّ بمفاهيم الحضرىّ، ولا الحضرىّ بمفاهيم البدوىّ.. وإلا فقدت اللغة قيمتها، وضاعت معالمها، وأصبحت أشبه بالنقد الزائف، الذي ينكره الناس، ولا يتعاملون به.
وفى الحديث الشريف كما روى البخاري: {كلّموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكدّب اللّه ورسوله}.
والمراد بمخاطبة الناس يما يعرفون، أي بما تبلغه مدركاتهم، ويقع منها موقع الفهم.. والمراد بتكذيب اللّه، هو اختلاط الأمر على الناس، حين يتحدث إليهم علماؤهم أحاديث لا يفهمونها على وجهها الصحيح، فيتلقون منهم وجوها من الكلام، فيتصورونها تصورا خاطئا، وإذا كل وجه يبدو لهم منها ينكر وجه صاحبه، فيقع التضارب والاختلاف، وتنشأ من هذا مفاهيم خاطئة، يناقض بعضها بعضها، وكلها تحدث عن اللّه، فيقع لذلك الشك، والارتياب ثم التكذيب، والكفر!! ومن تمام البيان في الرسالة الإسلامية أن صرف اللّه الرسول عن قول الشعر وعن أن يكون شاعرا.. فقال تعالى: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [69: يس] وذلك أن الشعر يحمل في أسلوبه مضامين كثيرة، لما يعتمد عليه من تصورات وتخيلات، ولما يقوم عليه نظمه من صور الكنايات والرمز، والإيماء، وغير ذلك، مما تتولد من الصورة الواحدة منه.. صور.. الأمر الذي لا يستقيم مع رسالة سماوية، غايتها إقامة الناس على طريق واحد مستقيم لا عوج فيه، ولا خلاف عليه.. وهذا ما يشير إليه ويؤكده قوله تعالى في التعقيب على قوله سبحانه: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ}.
إذ يقول جل شأنه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} أي إن هذا القرآن ذكر، ومن شأن الذكر أن يلقى العقل لقاء صريحا واضحا، حتى يأخذ عنه العبرة والموعظة، صريحة واضحة.. وهذا القرآن هو قرآن مبين.. أي واضح البيان لا لبس فيه ولا خفاء.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ}.
الضمير {نحن} هو للّه سبحانه وتعالى.. وفيه استدعاء للرسول، ومداناة له من ربّه، وتكريم لذاته بهذا الحديث الذي يتلقاه من ربه من غير واسطة.. {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ}.
وهذا على خلاف لو جاء النظم هكذا: اللّه يقص عليك.
والقصّ تتبع الأثر، والتعرف على صاحبه. وقصّ الأخبار، تتبعها والكشف عنها.
وأحسن القصص، أصدقه حديثا، وأشرفه غاية، وأكرمه مقصدا، وأقومه طريقا.
ولا نذهب مذهب القائلين بأن التفضيل هنا على غير حقيقته، بمعنى أنه ليس هناك مفضل ومفضل عليه، باعتبار أن لا حسن في قصص غير قصص القرآن، وأن القصص القرآنى هو الحسن، وهو الأحسن.. بل نقول إن التفضيل على حقيقته.
ونقول: إن القصص القرآنى وإن كان الغاية في الحسن والكمال، فإن ذلك لا يمنع أن يكون في القصص غير القرآنى، مما ألّفه المؤلفون، وقصّنّه القاصّون، سواء ما كان من نسيج الواقع، أو من شباك الخيال، وسواء ما كان على ألسنة الناس أم على ألسنة البهائم والطير- إن ذلك لا يمنع أن يكون في هذا القصص ما هو حسن يتأدب به، وتؤخذ منه العبرة والموعظة.. وليس ذلك بالذي ينزل من قدر القصص القرآنى، أو يزحمه في منزلته العالية التي انفرد بها، بل إن ذلك من شأنه أن يكشف عن جوهر القصص القرآنى، ويبين عن شرفه وعلوّ منزلته، حين يوزن بميزان الحسن، ويوضع في الكفّة المقابلة للقصص القرآنى، فيرجح القرآن كلّ ما عرف من قصص حسن، والشأن في هذا، شأن البيان القرآنى كلّه، مع البلاغة العربية وبيانها.. فإن اللغة العربية ببيانها المبين، وببلاغتها البالغة غاية الحسن والروعة، هي التي كشفت عن إعجاز القرآن، وألقت بيديها مستسلمة بين يدى بيانه وبلاغته!.
إن فضل الشيء، وعظم قدره، إنما يتبيّن بالقياس إلى الشيء الذي فضّل عليه.. فالناس ينظرون إلى قيمة الفاضل من خلال نظرتهم إلى قدر المفضول.
ألم تر أن السيف يزرى بقدره إذا قيل هذا السيف خير من العصا؟
إنه لا يشهد لبطولة البطل إلا من كان يلبس ثوب البطولة، بحيث يرى الناس من مواقفه في ميادينها أنه بطل مشهود له، فإذا صرعه بطل آخر، كان ذلك شهادة لهذا البطل أنه بطل الميدان، وفارس المعركة..!
وفى قوله تعالى: {بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ} إشارة إلى ما اشتمل عليه القرآن الكريم من قصص، وأنه مع نزول القرآن الكريم على النبيّ الكريم، نزل هذا القصص، الذي كان بعضا منه، ومعجزة من إعجازه، ودرسا من دروسه.. فالباء في قوله تعالى: {بما} تفيد التبعيض.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ}.
المراد بالغفلة هنا عدم الالتفات إلى الشيء والاهتمام له، إذ لم يكن من النبي قبل نزول القرآن عليه، التفات إلى هذا القصص أو اشتغال به.
قوله تعالى: {إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ}.
{إذ} ظرف متعلق بقوله تعالى {نَقُصُّ عَلَيْكَ} وفى تعلّق الظرف إذ بالفعل {نقص} إشارة إلى أن هذا القصص ليس على شاكلة ما يروى القصّاص من أخبار الماضين، فهم يتبعون آثارها، إذ لم يكونوا من شهودها.. أما هذا القصص، فهو من شهود علم اللّه، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا.. وإنما سمّى قصصا بالنسبة لمن يتلقونه، بعد أن مضى الزمن به.
وقوله: {إِنِّي رَأَيْتُ} أي رؤيا في المنام.. أي أن يوسف- عليه السلام- رأى في منامه أحد عشر كوكبا والشمس والقمر.. رآهم جميعا ساجدين له.
ولم يكشف يعقوب ليوسف- عليهما السلام- عن تأويل هذه الرؤيا، بل أراه منها أنها تنبئ عن خير عظيم يناله، ومنزلة عالية يبلغها.. وذلك في قوله: {قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} لقد نهاه عن أن يتحدث بهذه الرؤيا إلى إخوته، فإنها توحى إليهم بأنه سيكون له من إخوته الأحد عشر ما كان من تلك الكواكب في موقفها منه، ساجدة له، متخاضعة بين يديه.. وذلك من شأنه أن يبعث الحسد والغيرة في نفوسهم منه، ويفتح للشيطان طريقا للدخول بينه وبينهم، فيغريهم به، ويسلطهم عليه.
أما تأويل هذه الرؤيا، فقد وقع بعد ذلك بزمن بعيد، طويت في أثنائه أحداث كثيرة، وقعت ليوسف، حتى استقر به المقام في مصر، وأصبح متصرفا في شئونها المالية، ثم جاء إليه أبوه، وأمه، وإخوته الأحد عشر، ودخلوا عليه الباب ساجدين.. وفى هذا يقول اللّه تعالى في آخر السورة:
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} (الآية: 100).
وفى الحديث عن الكواكب والشمس والقمر بضمير العقلاء {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} إشارة إلى إحساسه بها وهو يراها في منامه، إذ كانت تتصرف تصرف العقلاء فتسجد له، وتظهر له الولاء والتعظيم، وهذا لا يكون إلا من فعل العقلاء!. إنها تلبس صورة أبويه وإخوته.. فهى بشر في صورة كواكب! قوله تعالى: {وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
هو من تمام كلام يعقوب في تأويل رؤيا يوسف، أي كما بدأ اللّه بلطفه بك، وتكريمه إياك صغيرا، فإنه سيتولاك برعايته، ويفيض عليك من نعمه كبيرا، فيجتبيك، أي يختارك ويصطفيك للرسالة والنبوّة، {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} أي يكشف لبصيرتك خفايا الأمور وعواقبها فيما تشتمل عليه الأحاديث المتشابهة، وهى التي لا يعلم تأويلها إلا اللّه والراسخون في العلم، كالرؤى المناميّة ونحوها.. وقد بينا ذلك في تفسير الآية الكريمة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [7: آل عمران] وقد جاء في السورة حدثان، كشف فيهما يوسف عن المضمون الذي اختفى وراء الصورة التي جاءا عليها في الرؤيا المنامية، كما سنرى ذلك بعد، في رؤيا صاحبيه في السجن، وفى رؤيا فرعون.
وفى قوله تعالى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ} إشارة إلى أنه سبحانه سيختاره للنبوة، وهذا هو تمام النعمة، وكما لها لمن أنعم اللّه عليهم من عباده، وكذلك سيكون إخوته {آل يعقوب} أنبياء، كما كان أبواهم إبراهيم وإسحق نبيّين..!
{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي بعلمه سبحانه يعلم أولياءه المستحقين لاصطفائه، كما يقول سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} [124: الأنعام].
وبحكمته، تنفذ مشيئته، فيما قضى به علمه.. فيدبّر الأسباب، الموصلة للمقدور الذي قدّره {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [100: يوسف].